مقالات كتاب الموقع

ليالى النار فى “إسرائيل”

كتب: عبدالحليم قنديل

     أكتب هذه السطور غداة ليلة الضربة الصاروخية الإيرانية على كيان الاحتلال، وفى انتظار رد إسرائيلى” لن يتأخر كثيرا، ربما يتجه إلى قصف مصافى بترول وغاز إيرانية، وربما يكون أكثر تهورا، ويستهدف المفاعلات والمنشآت النووية الإيرانية ذاتها، أو الإقدام على عمليات اغتيال لشخصيات سياسية وعسكرية ونووية كبرى فى الداخل الإيرانى، وهو ما تكررت حوادثه كثيرا من قبل، وعبر ثقوب وخروق أمنية واسعة فى نسيج الحكم الإيرانى وأجهزته المتداخلة على نحو بالغ التعقيد والتلاطم .

  وربما لم يعد أحد يتساءل عن احتمالات نشوب حرب مفتوحة، فقد جرى الانزلاق إليها بالفعل، حتى لو كانت طهران تحاول عدم الانجرار إليها بالكامل، ولاعتبارات تخص تأمين مشروعها النووى، الذى بلغ مراحل متقدمة، وتخطى العتبة النووية، وصار على وشك إنتاج القنابل الذرية، وقد بدت هذه المخاوف مقيدة وكابحة لتصرفات إيران لوقت طال، وامتنعت لشهور عن تنفيذ وعدها بالرد على اغتيال القائد الشهيد “إسماعيل هنية” فى غرفة نومه شمالى طهران فى يوليو الفائت، ثم بدت تصريحات الرئيس الإيرانى الجديد “مسعود بزشكيان” مربكة فى اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة وما حولها، وقد بدا حريصا على كسب مودة الأمريكيين، وإلى حد قوله الملفت، أن الإيرانيين والأمريكيين إخوة (!)، وتأكيده أن إيران لا تنوى الذهاب إلى حرب، لكن عدوانية وعجرفة رئيس وزراء العدو “بنيامين نتنياهو”، قطعت الطريق على نوايا التهدئة الإيرانية، وبالغت فى استفزاز طهران، مع موجة اغتيالات قادة “حزب الله” فى لبنان، وإلى حد اغتيال القائد الشهيد “حسن نصر الله” ومعه قيادى الحرس الثورى الإيرانى “عباس نيلفروشان”، بالتواقت مع خطاب “نتنياهو” المتغطرس أمام المقاعد الخالية احتجاجا فى اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتهديده بمحو إيران وجماعاتها وإزاحة نظامها، وكانت عملية الاغتيال الكبرى تمت باتفاق مسبق مع واشنطن، وبطائراتها الشبحية وقنابلها الخارقة للتحصينات، وبالتعاون الاستخبارى والتكنولوجى الكامل، وبإعادة تكثيف الحضور العسكرى الأمريكى فى المنطقة، من البحر الأبيض إلى البحر الأحمر إلى الجوار الإيرانى المباشر فى الخليج، ومضاعفة عديد الجنود الأمريكيين، وحشد حاملات الطائرات والغواصات النووية، وتأهب نحو ستين ارتكازا وقاعدة أمريكية فى المشرق والخليج العربيين، وربما كان هذا التحفز الأمريكى دافعا قويا لسلوك إيرانى احترازى قبيل الضربة وخلالها، فقد أبلغت الدوائر الأمريكية تحذيرها للكيان “الإسرائيلى” قبل الضربة بساعات، وقيل إن طهران أبلغت واشنطن عبر وسطاء بالضربة قبل تنفيذها، أو قد تكون المراقبات والاستطلاعات الأمريكية بوسائلها المتعددة، قد لاحظت استعدادا فى قواعد إيرانية لإطلاق الصواريخ باتجاه الكيان، وقد يكون فى القصة مزيجا من الاستطلاع الأمريكى والإبلاغ الإيرانى، لكن المعلومات الأمريكية لم تكن دقيقة تماما، فتحذيرها شبه العلنى للكيان، كان عاما ومفتوحا، وعلى مدى زمنى يصل إلى 12 ساعة مساء الثلاثاء الأول من أكتوبر الجارى، لكن الضربة الإيرانية احتفظت ببعض المفاجأة، فى تبكير التوقيت، وبالابتعاد عن استخدام الطائرات المسيرة البطيئة هذه المرة، وبالتركيز على إطلاق مئات الصواريخ الباليستية بعيدة المدى، كثير منها “فرط صوتى”، وبسرعات خارقة تتجاوز سرعة الصوت بنحو عشرين مرة، وهكذا ذهبت صواريخ إيران لأهدافها العسكرية فى دقائق معدودة، وشاركت واشنطن طبعا فى اعتراض الصواريخ عبر حاملات طائراتها الضخمة فى عرض البحر، وادعى جيش الاحتلال أنه اعترض أغلب صواريخ إيران بالقبة الحديدية ومقلاع داود، وإن كان اعترافه هذه المرة بالحماية الأمريكية أكثر وضوحا، سواء عبر حاملات الطائرات، أو عبر قواعد أمريكا فى دول عربية معروفة، وبدا “نتنياهو” بعد الضربة مهزوزا  مرتعشا، وتوعد طهران بدفع ثمن فادح لخطأ حياتها (!) .

  ومن المؤكد، أن ضربة إيران هذه المرة كانت مختلفة، وجاءت أكثر تطورا وعصفا من ضربتها الأولى فى أبريل الماضى، كانت الضربة الأولى ـ كما هو معروف ـ ردا على قصف “إسرائيل” لقنصليتها فى دمشق وقتل عدد من قادة الحرس الثورى، وبدت يومها خروجا عن نص الصبر الاستراتيجى الإيرانى المعتاد، وإن بدت الضربة الأولى مثيرة للتعجب فى كثير من تفاصيلها، من نوع كثافة استخدام الطائرات المسيرة البطيئة فى الذهاب لأهدافها، وإلى حد تحول بعض مشاهدها إلى مسلسل تليفزيونى هزلى، استمر عرضه لساعات على البث المباشر، وهو ما أتاح فرصة مثالية استعراضية لجهود التصدى الأمريكية والبريطانية و”الإسرائيلية”، حتى قبل وصول المقذوفات إلى سماء الكيان المحتل، وإن بدت بعض الصواريخ الباليستية المستخدمة وقتها أسرع وصولا، لكن استخدام الصواريخ الفرط صوتية، كان عنوان المفاجأة الإيرانية النسبية فى المرة الثانية الأخيرة، صحيح أن جماعة “الحوثى” سبقت طهران إلى استخدام الصواريخ فرط الصوتية من طراز “فتاح”، لكن استخدام إيران لهذه الصواريخ ذاتها، كان أكبر وأكثف بما لا يقاس إليه، وصحيح أن طهران ألزمت نفسها هذه المرة أيضا بعدم التعرض لتجمعات سكنية مدنية، وركزت على المواقع العسكرية “الإسرائيلية” وقواعد “نافاتيم” و”رامون” و”نتساريم” ومقار “الموساد” وغيرها، ورغم عدم وضوح نتائج الضربة الإيرانية الجديدة، وزعم “إسرائيل” كالعادة، أن الخسائر كانت محدودة، ومقصورة على أضرار فى القواعد وحولها لمئة مبنى، وبغير إصابات بشرية خطرة، وإن كان الأقرب للصحة، أن “إسرائيل” تكتمت على الخسائر كالعادة، ودعونا نتذكر، أنه مع ضربة “صدام حسين” الصاروخية للكيان أوائل تسعينيات القرن الفائت، لم تعلن “إسرائيل” وقتها عن خسائر، وتأجل الإعلان عن مقتل وإصابة عشرات الإسرائيليين إلى ثلاثين سنة بعد الضربة العراقية المحدودة، وبدت نية الإخفاء والتكتم على الخسائر أكثر ظهورا هذه المرة، فلا أحد عاقل يصدق، أن الدفاعات الجوية الأمريكية و”الإسرائيلية”، تصدت وأسقطت كل صواريخ إيران الفرط صوتية، ثم إن أوامر الرقابة العسكرية “الإسرائيلية” بدت معلنة جازمة صارمة، وأمرت بالامتناع عن تصوير أى شيء، اللهم إلا مشاهد مختارة بعناية، لم يكن بوسعها إخفاء علامات الرعب الواسع الذى اجتاح الكيان، وهروب ملايين سكانه جميعا إلى الملاجئ، واختباء “نتنياهو” وأركان حكومته وقادة جيشه تحت الأرض، وتوقف الإرسال والبث المصور المباشر على شاشات محطات تليفزيون الكيان، وتحول التليفزيونات المرئية إلى إذاعات مسموعة، تحدث فيها المذيعون من الملاجئ لا من الاستديوهات المهجورة، كانت تجربة الرعب غير مسبوقة فى تاريخ الكيان منذ 7 أكتوبر 2023، وكان الكيان قد رد على ضربة إيران الأولى أواسط أبريل الماضى، التى كانت محدودة عابرة محبطة، فيما كان الرد “الإسرائيلى” وقتها بالعدوان على “أصفهان” رمزيا، إن لم نقل إنه كان عظيم التفاهة، وأيا ما كانت طبيعة وحجم الرد “الإسرائيلى” على ضربة إيران الثانية الأكثر جدية وأثرا وإرعابا، فإنها لن تعنى نهاية المسلسل الحربى غالبا، وربما تدفع طهران إلى الرد على الرد، وتصعيد وقائع الحساب المفتوح، وإن كانت واشنطن الغارقة هذه الأيام فى فوضى وفوات انتخابات الرئاسة، لا تبدو مستعدة للمشاركة الجهيرة مع “إسرائيل” فى ضرب إيران، خصوصا مع مراقبة روسيا والصين اللصيقة لما جرى ويجرى، فلا تخفى على لبيب رائحة حضور روسيا الموارب فى المشهد، ودعمها المقدم إلى طهران، وتزويدها بخبرات وتكنولوجيا الصواريخ فرط الصوتية، فوق أن برنامج إيران النووى تجاوز على ما يبدو احتمالات المقدرة على تقويضه عسكريا، حتى لو جرى توجيه ضربات مباشرة للمنشآت النووية، ولا يبدو أن بوسع واشنطن ولا تل أبيب من باب أولى، أن تسقط نظام إيران بغير غزو برى مباشر.

  والأهم من جولات إيران و”إسرائيل”، أن قوة جماعات المقاومة العربية من نوع مختلف، وهى المدعومة بالمال والسلاح من طهران، لا تبدو مرشحة للتراجع، رغم ضربات قطع الرءوس، التى نالت كثيرا من قادة “حماس” و”حزب الله”، وصولا إلى اختناق الشهيد “حسن نصر الله” تحت الركام، لكن هذه الضربات المستندة إلى تفوق الاستخبارات والتكنولوجيا والصواريخ الخارقة وسلاح الجو الإسرائيلى، لن تعيد لكيان العدو رهبته وقوة ردعه الكاسحة كما يظن، فلم تظهر على “حزب الله” بعدها علامات ضعف مؤثرة، وظل يواصل ويصعد ضرباته الصاروخية فى الشمال والعمق “الإسرائيلى”، ثم بدأ العد التنازلى لزوال النشوة “الإسرائيلية” مع  عمليات دخول قوات العدو إلى جنوب لبنان، وبدء عد الخسائر البشرية “الإسرائيلية” العسكرية من جديد، ومقتل 14 ضابطا وجنديا من فرقة “كوماندوز” للعدو فى كمين محكم بقرية “العديسة”، والعودة إلى مجازر تدمير دبابات “الميركافا” فى “مارون الراس”، وقبلها فى العملية الفدائية الفلسطينية الجريئة فى “يافا”، التى أسقطت سبعة قتلى من “الإسرائيليين” فى ليلة الهجوم الإيرانى .

Kandel2002@hotmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ad 12 all pages
زر الذهاب إلى الأعلى