الكاتب الصحفي الكبير منتصر جابر يكتب: في رحيل شاعر نبيل

في ليلة جميلة من ليال العمر التي لا تمحى في التسعينيات ..
وأنا بصراحة عشت ليالي جميلة كتيره..
وربنا رزقني بأصحاب أجمل من الجمال
كلهم صعاليك صيع بصراحة بالمفهوم الكلاسيكي للصعاليك العرب، وبمعنى يحبوا السهر زيي ويتجولون في دروب الله.. يعني الطيور على اشكالها تقع
وفي الليلة دي كنا مجموعة من الصحفيين نسهر في شقة قديمة .. الرطوبة فيها نازله علي الصدر كتماه والدنيا حر جدا وبنحاول نتنفس الأوكسجين ونلقفه لقف من الانف والفم والاذن والعينين..
بس كانت الشقة جميلة وواسعة وسقفها عالي وشبابيكها كبيرة بشيش تطل علي قلب حواري ميدان الجيزة..
والبيت اللي فيه الشقة دخوله موحش فبابه الكبير يفتح على ظلام وعندما تخطو أول خطوة بعد العتبة الاولي تجد نفسك تنزل وكأن الشقة تحت الأرض لان مستوي الشارع صار أعلي من مستوي الأرض التي بني عليها البيت.. وكنا نتحسس بأقدامنا حتى نصل لدرجات السلم للوصول إلى الشقة.. فتشعر أنك صاعد الي مغارة وليس إلي نصل اللي شقة التي كنا نفرقها من بين بقية الشقق ان بابها مفتوح على طول حتى تظن انها دائما مفتوحة حتى ولو صديقنا الصحفي اللامع محمود الشربيني، بجريدة الانباء الكويتية والوفد، غير موجود فيها.. وهو كان كريماً معنا دائماً في منازله سواء في هذه الشقة أو في شقة بولاق الدكرور التي كان أكثر شيء يميزها أن كل سكان شقق الشارع يعيشون معك وانت تعيش معهم في كل شققهم.. ولكن ضربها الزلزال في عام 92، وكان قد وضع فيها تحويشة عمره من عمله بالصحافة في ذلك الوقت..
المهم في هذه الليلة تجمع الأصدقاء على ترابيزة كبيرة في الصالة وحواليها الكنب الاسيوطي بمسانده العريضة واخدين راحتنا في القعدة ولو محتاج تمدد تمدد ولو عاوز تنام تنام حالة تشعر فيها أنك طاير في السما أو داخل مركبة فضائية منعدمة الجاذبية
وكنا مجموعة غريبة ورائعة لدرجة إنك لازم واجباري تقلق من نهاية هذه الليلة.. ومنهم الراحل أحمد جودة الصحفي النبيه بجريدة الأهالي، والزملاء المبدعين محمد عصمت الصحفي بالوفد، والصحفي طلعت المغربي الله يرحمه، والصحفي الراحل علي ياسين.. والراحل الشاعر الوديع @محمد السيد إسماعيل الناقد والدكتور.. فيما بعد.
وكانت سهرة سياسية وثقافية رفيعة المستوى حيث جلسنا وأمامنا مائدة عامرة بالطعام والشراب نناقش قضايا شتى.. ونستمع إلى قصائد محمد إسماعيل الرائعة، وهذه كانت أول مرة أراه فيها.. وهو من الشخصيات التي تتعاطف معها بلا سبب
فهو ليس من النسور الجارحة مثل بعض الأصدقاء ولا من الشخصيات التي تتعامل معهم بحذر مثل بعض الأصدقاء برضه.. هو شخص متصالح مع الكون لان الكون كله لا يشغله.. بمعني انه ليس في معركة مع الكون ولا مع البشر.. ومعركته مع نفسه واشعاره ووجهات نظره النقدية.. ويتحدث وهو مندهش بما يقوله وكأن لا أحد قاله كطفل ينطق أولى كلماته ويتصور انها اول كلمات في الكون ولم ينطقها أحد قبله..
وفي أواخر الليل انتهي الطعام والشراب والنقاش لم ينتهي فتطوع شاعرنا الوديع محمد إسماعيل أن يمنحنا نفحة من نفحاته اللطيفة بالذهاب الي محل لوكس بميدان الجيزة ليزيدنا مما نقص ويصل مما انقطع.. وعاد بعد فترة طويلة قميصه ممزق وروى لنا أنه بعد شراء لزوم ما يلزم اعترضه أمين شرطة في الميدان وأخذ منه كل شيء، وكان محمد نحيل وجسده صغير ولا يعكس عمره الحقيقي ويبدو أن الأمين تعامل معه على إنه عيل صغير.. فانتفضنا جميعاً حمية لشاعرنا الذي هو في عيوننا كبير وعظيم وفي عيون الحكومة ولد صغير..
وأسرعنا نحو ميدان الجيزة وأشار لنا علي أمين الشرطة الذي كان يجلس في البوكس تحت الكوبري وحصلت مشادة مع كل من في البوكس وهاتك يا ضرب.. وطبعاً الشربيني بعضلاته المفتولة وجسده الممشوق وعلي ياسين بسماره وطوله الفارع والمغربي بضخامته وجودة بشراسته وكنا أنا وعصمت لا يميزنا سوى طول القامة وخلفنا محمد إسماعيل الله يرحمه.. ورغم إننا جميعاً لا لنا في الضرب ولا في الخناقات حقيقة ولكنا شباب وهيئتنا توحي باننا عتاة إجرام.. ولكنا مجرد صوت مثل كل الصحفيين..
وكانت النتيجة إننا ذهبنا جميعاً إلي قسم الجيزة في البوكس معززين مكرمين لأن الظابط الصغير الذي كان مع الأمين والعساكر في البوكس عرف إننا صحفيين وكانت الصحافة أيامها وخصوصا الوفد والأهالي حاجة مرعبة ويحسب للصحفيين فيهما ألف حساب.. وعندما دخلنا على الظابط النوبتجي لعمل المحضر وعرف إننا صحفيين كذلك تراجع وتريث كثيراً ويبدو إنه آثر السلامة واتصل بالمأمور الذي كان في بيته وفعلا حضر المأمور وكان شخصية محترمة وقال كلاماً لطيفاً انه ما كان يصح التعدي على الأمين وأنتم صحفيين كبار وفي صحف كبيرة وقالها صراحة إنه لا يريد ازعاج من الصحف ولا من نقابة الصحفيين وستقولون إن الداخلية قبضت على صحفيين ولن يقال إنها مشادة عادية.. واقفل الموضوع بالتصالح خاصة بعد أن تبين له أن الأمين ما كان له أن يعترض محمد إسماعيل بدون وجه حق، وقد أرغم الأمين علي الصلح رغم رفضه الشديد في البداية.
وعدنا يومها والراحل الدكتور محمد السيد إسماعيل وسطنا وشعرنا بالفخر إننا أخذنا له حقه.. ورغم إنني لم أكن من أصدقائه المقربين للأسف ولكن في المرات التي كنت التقيه فيها على مقهى زهرة البستان أو أتيليه القاهرة أو في ندوة كان يحتفي بي ويعانقني برقة الشاعر النبيل ونتذكر الواقعة ونضحك.. كان متواضعاً وبسيطاً رغم شاعريته الكبيرة وعلمه النقدي الغزير.. ولكن هكذا يكون المبدعين الكبار يرحلون مبكراً.. وباعدت بيننا السنوات والسفر والغربة وعرفت من الجرانين أن محمد السيد إسماعيل مات في صمت وبدون ازعاج لأحد كما عاش بدون ازعاج لأحد.. ألف رحمة ونور على روحه الوديعة المسالمة