عبدالحليم قنديل يكتب.. حروب “إسرائيل” غير المنتهية

لا أحد عاقل يتوقع أن يعم الهدوء فى المنطقة ، ولا أن تسود اتفاقات “أبراهام” اللعينة إياها ، بل أن تكون الحروب المتجددة المستأنفة هى سمة المنطقة الأبرز فى عام 2026 ، وبالذات فى المشرق العربى من فلسطين إلى لبنان إلى سوريا والعراق وصولا إلى إيران ، والسبب لا يخفى ، فلم تنتصر “إسرائيل” أبدا ، ولا حققت جوهر أهدافها فى حروب توالت منذ 7 أكتوبر 2023 إلى اليوم ، ولا صنعت ما تسميه “الشرق الأوسط الجديد” على مقاسها ، ولا هى استعادت قوة الردع المانعة لتجدد الحروب ، ولا أنهت حربا باستسلام الخصوم ، وهم ـ باستثناء دولة إيران ـ من جماعات وحركات المقاومة الشعبية ، وصحيح أن نار الحروب لم تنطفئ حتى بعد اتفاقات وقف إطلاق النار على جبهتى “غزة” ولبنان ، لكنها تجرى فى مستوى منخفض إلى حد ما ، وتبدو كصدامات من طرف واحد هو كيان الاحتلال ، الذى اخترق وقف النار المعلن فى لبنان لنحو سبعة آلاف مرة ، واخترق وقف النار المعلن من أسابيع فى “غزة” لأكثر من ألف مرة ، بينما بادر العدو باختراقات دون رد على جبهة سوريا ، اللهم إلا باستثناء حالات نادرة أهمها فى قرية “بيت جن” ومقاومتها الشعبية ، رغم ضراوة القصف “الإسرائيلى” والغزوات البرية المتصلة على مدى أكثر من عام فى جبهة سوريا وصولا إلى قلب دمشق ، وتحطيم كافة أسلحة وقواعد الجيش السورى بآلاف الغارات ، والاستيلاء الفعلى المباشر على أراض فى جنوب سوريا أضيفت للجولان المحتل ، تبلغ مساحتها فى أقل تقدير أكثر من ضعف مساحة “غزة” ، فوق حضور ظل الاحتلال “الإسرائيلى” بالأصالة وبالوكالة على أزيد من ضعف مساحة لبنان بكامله .
وفى فلسطين قلب الصراع الدامى المتصل لنحو ثمانين سنة ، لا تبدو الحرب منتهية حتى تاريخه ، ليس فقط فى “غزة” ، التى توقفت فيها حرب الإبادة الجماعية للبشر والحجر والشجر كما كانت عليه قبل أكثر من شهرين ، وبلغ عدد الشهداء الفلسطينيين الجدد نحو خمسمائة إلى الآن ، أضف استمرار اغتيالات قادة المقاومة على طريقة اغتيال الشهيد “رائد سعد” ، ومنع العدو لتدفق المساعدات الإغاثية على “غزة” المتفق عليها فى المرحلة الأولى من تنفيذ “خطة دونالد ترامب” ، ولم يصل إجمالى الإغاثات الغذائية والطبية المسموح بها حتى إلى ربع المتفق والموقع عليه ، مع غلق معبر “رفح” ، وبقاء الاحتلال “الإسرائيلى” المباشر فى 53% من مساحة “غزة” وراء ما أسموه “الخط الأصفر” ، الذى أزاحته “إسرائيل” غربا ومدت حضورها العسكرى المباشر إلى 60% من إجمالى مساحة “غزة” ، ومدت رعايتها لجماعات العملاء المسلحة قبل وبعد تصفية العميل الأول “ياسر أبو شباب” ، وصرنا بصدد جماعات عملاء مضافة ، من نوع عصابة “حسام الأسطل” فى شرق “خان يونس” إلى “رامى حلس” و”أشرف المنسى” وغيرهم فى شرق مدينة “غزة” وشمالها ، واستمرت “إسرائيل” فى هدم آلاف المبانى المتبقية بعد دمار حرب الإبادة ، ومنعت دخول مئات آلاف الخيام والمساكن الجاهزة ، وأحالت حياة الفلسطينيين فى “غزة” إلى جحيم ومآسى لا تنتهى ، ظهرت علاماتها الفاجعة مع دخول فصل الشتاء ، وإطاحة السيول والمنخفضات الجوية بخيام النزوح المهترئة البالية ، وموت الشيوخ والأطفال الرضع تجمدا من قسوة البرد وأمراضه ، وهو ما بدا متصلا مع مذابح الإبادة الجماعية التى قتلت وأصابت أكثر من ربع مليون فلسطينى ، وكلها أمارات تدلل على غلبة توقع استئناف الحرب ، حتى مع امتناع “حماس” وأخواتها عن الرد إلى الآن ، وحتى مع مساعى الدخول إلى المرحلة الثانية من تنفيذ “خطة ترامب” ، التى يسعى الوسطاء والرئيس الأمريكى لإقناع “بنيامين نتنياهو” وحكومته بشروطها المعلنة ، وهو ما لا تبدو الطرق إليه سالكة ، حتى مع استقدام ما تسمى “قوات الاستقرار” وتشكيل مجلس الوصاية والانتداب المسمى “مجلس السلام” .
وفى لبنان كما فى الضفة والقدس ، لا يتوقف إيقاع حروب “إسرائيل” من طرف واحد ، فحرب الإبادة والتهجير جارية فى كل مدن ومخيمات الضفة ، وبالذات فى القطاع الشمالى ، حيث تجرى عمليات تجريف وإخلاء وتفجير آلاف المبانى والمنازل ، وتصعيد اعتداءات جيش الاحتلال وقطعان المستوطنين على المدنيين الفلسطينيين ، واحتجاز الناس فى معازل خلف أكثر من ألف حاجز ، ولا يكاد يمر يوم دون ارتقاء شهداء فلسطينيين جدد ، ومواصلة اعتقال وسجن الآلاف ، وحتى بلغ عدد الأسرى الفلسطينيين ما يفوق العشرة آلاف ، مع دفع عشرات الآلاف للنزوح وهجر المخيمات المدمرة ، وتحويل موسم قطاف الزيتون إلى ميادين دماء ، وتوحش وتوسع عمليات إقامة مستوطنات استعمارية ، وهو ما يجرى شئ مثله فى جنوب سوريا ، وفى الجنوب اللبنانى ، الذى شهد إقامة حزام أمنى متصل مع مرتفعات وسفوح “جبل الشيخ” فى جنوب سوريا ، ففى بداية مرحلة ما أسمى اتفاق وقف العمليات العدائية فى لبنان قبل أكثر من عام ، سيطرت قوات الاحتلال على خمس نقاط استراتيجية حاكمة داخل الحدود اللبنانية مع شمال فلسطين المحتلة ، أضافت القوات “الإسرائيلية” إليها نقاطا أخرى ، وقيل أن المجموع وصل إلى ثمانية نقاط حتى اليوم ، فى حين تراوح مساعى الحكومة اللبنانية دبلوماسيا فى مكانها ، رغم قرار الرئيس اللبنانى والحكومة إضافة ممثل دبلوماسى مدنى إلى وفد لبنان العسكرى فى اجتماعات ما تسمى “لجنة الميكانيزم” ، التى يترأسها جنرال أمريكى ، وقد خضع الحكم اللبنانى لشرط إضافة السفير اللبنانى السابق “سيمون كرم” ، وهو المعادى بالخلقة لمقاومة “حزب الله” وسيرتها منذ وجدت .
وبالمقابل ، لا تبدى جماعات الحكم الافتراضى ، لا فى سوريا ولا فى الضفة ، أى رغبة بمقاومة الاحتلال ، اللهم إلا باستمراء تقديم الشكاوى والاستغاثات بما يسمونه المجتمع الدولى ، فى حين تصمت طلقات حركات المقاومة الشعبية إلى أجل غير مسمى ، وتركز جماعات المقاومة على رفض تسليم أو نزع سلاحها ، ويرفض “حزب الله” نزع السلاح خارج منطقة جنوب نهر “الليطانى” ، فيما ترفض جماعات “حماس” وأخواتها مبدأ نزع السلاح من أصله ، وتعتبر ـ عن حق ـ أن المقاومة المسلحة باقية ما بقى الاحتلال ، وأنها لن تسلم سلاحها إلا لحكومة دولة فلسطينية مستقلة حين تقوم ، ولا تبدو مهمة نزع السلاح فى غزة ميسورة ولا متاحة لأى طرف كان ، وتتصور واشنطن أن المهمة المنصوص عليها فى “خطة ترامب” ، يمكن أن تقوم بها ما تسمى “قوة الاستقرار الدولية” بقيادة جنرال أمريكى ، بينما لا تبدو الدول المرشحة للمشاركة بالقوة حماسا لخطيئة التورط فى قتال مع “حماس” وأخواتها ، ويطرح بعضها صيغا من نوع تجميد السلاح طوعا ، أو تسليمه كوديعة موقوتة ، بينما يصور “نتنياهو” مهمة “القوات الدولية” فى جانب وحيد هو نزع سلاح “غزة” بكاملها ، ويعلن أن “إسرائيل” لن تكمل الانسحاب من “غزة” دون نزع سلاح “حماس” وأخواتها ، ويقول أن الجيش “الإسرائيلى” مستعد للقيام بالمهمة ، التى فشل بها عبر أكثر من سنتين فى حرب الإبادة ، وكل تلك عوامل مهددة لاستكمال اتفاق غزة بخطواته المعلنة ، وقد تنذر بتجديد حرب الإبادة فى أى وقت ، بينما تتدافع النذر إلى حرب اجتياح شاملة فى لبنان ، وبدعوى فشل الحكومة اللبنانية فى نزع سلاح “حزب الله” ، وضرورة نهوض إسرائيل بعملية إفناء السلاح ، التى تبدى أطراف عربية منتفخة ماليا استعدادا لتمويلها بمليارات الدولارات ، وهو ما أشار إليه الرئيس الأمريكى “ترامب” فى تصريحات أحدث ، وأكد أن أطرافا فى الشرق الأوسط تريد التدخل مساندة للكيان فى حرب نزع سلاح المقاومة .
والمحصلة ببساطة أن حروبا أعنف وأشمل تدق الأبواب ، ليس فقط فى فلسطين وفى لبنان ، بل حتى فى سوريا التى ترفض “إسرائيل” عقد اتفاق أمنى مع حكومتها ، وتسعى لحرب تلحق الجنوبين السورى حتى دمشق واللبنانى حتى بيروت بنفوذها الأمنى المباشر ، وتحويل كامل سوريا وكامل لبنان إلى حديقة أمنية ملحقة بكيان الاحتلال ، وطبيعى أن الهدف لن يتحقق بغير شن حروب إضافية عالية الوتيرة ، قد يصح توقعها فى غضون أسابيع أو شهور ، وقد تمتد شراراتها إلى اليمن والعراق ، وبدعوى وجود جماعات ولاء إيرانى ، وقد تتضمن الخطط المتفق عليها أمريكيا و”إسرائيليا” ماهو أبعد ، ونشهد حرب تصفية حساب جديدة مع إيران ذاتها ، بعد أن انتهت حرب “الإثنى عشر يوما” إلى وضع معلق ، لم يحقق لأمريكا ولا “إسرائيل” شيئا يذكر من الأهداف المعلنة ، فلا البرنامج النووى الإيرانى جرى القضاء عليه كما ادعى “ترامب” ، ولا البرنامج الصاروخى الإيرانى تعطل ، ولا طهران فقدت قدرتها على الردع ، خصوصا مع استكمال النظام الإيرانى لاستعدادات الحرب المقبلة ، وتطوير مقدرته الدفاعية الجوية بالتعاون النشط مع روسيا والصين ، ووصول جولات التفاوض كلها مع الأمريكيين والأوروبيين إلى الحائط المسدود .
بقلم: عبدالحليم قنديل
Kandel2002@hotmail.com







