وداعاً محبوب… القلب الهادئ والصوت الخافت.. بقلم: أمجد زكي

لم يكن رحيلك مجرد خبر… بل وجع يتسلل بهدوء، تماماً كهدوئك، ويقيم في القلب، حيث سكنت طويلاً دون ضجيج. حين تغيب يا من كنت وفياً للجميع، نشعر بأننا فقدنا أكثر من شخص… فقدنا زمناً من النقاء، اسمه محبوب العبدالله.
في وداعك اليوم، تتقاطع الذكرى بالحسرة، وتغلب العاطفة الحروف وهي تحاول ارتداء ثوب الوقار أمام رحيلك الصعب… غبت، ولم يغِب أثرك، فأنت من الوجوه التي حين تغيب، لا يملأ غيابها سوى الذكرى وصوتك الباقي في وجدان كل من عرفوك.
اليوم يفتقدك الوسط الفني باعتبارك واحداً من أهم رواد الصحافة الفنية الكويتية ومن أبرز الأسماء المؤسسة لمسرح الخليج… توصيفك كموسوعة في فن المسرح لا يمكن أن يُمحى، وقد أطلق عليك صديقك الأقرب الأستاذ عبدالعزيز السريّع «ميكي ماوس الكويت»، لأن مخزون المعلومات والذكريات لديك لم يتوفر لغيرك. دهاليز المهرجانات وغرف إعداد منشوراتها ستظل تستعيد، وتفتقد، حركيتك وتوهجك وإنتاجك… ووجهك المريح.
وما إن يغيب الجسد، حتى تمضي الذاكرة تتحدث عنك بصيغة الغائب، لا افتقاداً لك، بل انسجاماً مع ما تفرضه المسافة بين الحياة والذكرى… ولأن الصوت صار صدى. محبوب العبدالله من أوائل الشخصيات التي التقيتها مع بداية رحلتي العملية في الكويت مع الأستاذ السريّع. ومنذ اللقاء الأول، لم يكن محبوب مجرد اسم، كان حالة من التواضع والثقافة والصدق المهني، ظل وفياً لها حتى آخر أيامه. عرفته أحد أعمدة التأسيس الفعلي لمسرح الخليج العربي، وركناً أصيلاً في مسيرة النقد المسرحي والثقافي في البلاد.
لم يكن طامحاً للشهرة، بل كان وفياً لقيم ظل يعتنقها، ويغرسها في كتاباته، وفي حضوره الهادئ المثقف. أحاديث الذكريات معه كانت تأخذني في سفر طويل إلى عواصم عربية، حيث توهج حضوره منذ الستينيات. وضعتني تلك اللقاءات في فضاءات تواصله مع قادة سياسيين ومفكرين وأدباء ونجوم كبار التقاهم الراحل الكبير. ومعها صادفت كتاباته الصحافية الشجاعة وتقاريره التي اتسمت بالدقة والعمق… فيما نستدعي معاً -حتى أيامه الأخيرة- مواقف طريفة مازالت في الذاكرة، نلتمس بها لحظات صفاء تقاوم وهن المرض وشيخوخة الأيام.
أتذكّره جيداً خلال محنة الغزو العراقي، حين كنت أتردد على مقر مسرح الخليج بالسالمية، فكان محبوب حاضراً، ثابتاً، العين الساهرة على المكان، والضمير الحي الذي لم يُغادر موقعه. كان هناك، يحرس ذاكرة المسرح، وملفاته، وأحلامه، إلى جانب المندوب الوفي، عبدالرحمن عبدالكريم، رحمه الله… لم تكن حراسة لمبنى، بل صون لهوية… لمشروع ثقافي جمع مبدعين كثراً، ظل هو أحد أوفى حراسه.
في سنوات مضت شهدت فرقة الخليج تقلبات عديدة نتيجة تغييرات مجالس الإدارة، وتفاوت التوجهات، لكن محبوب بقي ثابتاً، وفياً، لا يعادي أحداً ولا يتملق أحداً. لم يكن من أولئك الذين يبدلون مواقعهم وفق اتجاه الريح، لأنه رسم لنفسه صورة غاية في الاتزان واحترام الذات، فاحترمه الجميع، من دون أن يطلب ذلك.
كتبتُ عنه عام 2012 مقالاً لتكريمه بعنوان «محبوب… والتكريم»، ذكرت أنه هادئ الطبع، واسع الصدر، خافت الصوت، طيب المعشر، مر به الزمن ولم يترهل في الفكر ولا البنيان، واليوم أدعو فرقة مسرح الخليج العربي إلى أن تطلق اسمه على إحدى قاعاتها أو مكتبتها، مع إصدار كتاب عنه ضمن مجموعة الكتب التي تتبناها الفرقة لتوثيق مسيرة روادها.
خالص العزاء إلى أسرته الكريمة، شقيقيه السيدين جوهر وعلي، وابنته مريم التي كانت دائماً الأقرب إلى قلبه وذكرياته. كما أعزّي نجوم مسرح الخليج الذين عايشوه وعرفوا صدقه خصوصاً – مع حفظ الألقاب – عبدالعزيز السريّع، محمد المنصور، سعاد عبدالله، حياة الفهد، أسمهان توفيق، خالد العبيد، وغيرهم من رعيل مسرحي لم يكن محبوب بعيداً عن ملامحه. لقد رحل محبوب، لكن محبته باقية، كاسمه تماماً. رحمك الله، أبا مريم، فقد كنت محبوباً بقدر ما كنت صادقاً.