لا أظن أن كثيرين يعرفونه رغم أن مصانعه كانت الأشهر في مصر قبل 1952م ربما لذلك قد يكون من المفيد استعادة حكايته ففيها الكثير من الدروس.
اقترن اسم [ياسين] بصناعة الزجاج باعتباره رائدا لهذه الصناعة التي بدأها في مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي ولكنه قبل دخوله هذا المجال كان أول من أدخل فكرة «النقل العام» إلى شوارع القاهرة.
في منزل [سيد ياسين] ولد طفل تفتحت عيناه في أسرة تعمل في الأعمال الحرة الأب كان مقاولًا في تقوية جسور النيل فضلًا عن عمليات المقاولات العامة الأخرى، وكان يمتلك مراكبا لنقل المحاصيل الزراعية في خضم هذه النجاحات تعلم الأبن أصول التجارة من والده وتعلم منه أيضًا أن رأس المال لا يتنافى مع الجانب الإنساني، كان يشاهد الأب يقبل ضمانة أصدقاءه في مبالغ مالية كبيرة وكانت تلك الخطوة نقطة تحول في مسيرة حياة الابن [محمد سيد ياسين].
كتب الصحفي [علي أمين] في أخبار اليوم في أكتوبر عام 1957م مقالًا عن [محمد سيد ياسين]:”قال لي رجل الأعمال [محمد ياسين] إنه بدأ من الصفر وبدأ حياته العملية بدين قدره 3 آلاف جنيه ،وفضل أن يشقى ويجتهد ويعمل على سداده وكانت كل هذه الديون “دين شرف” أي ضمانات لأصدقاء والده رفضوا الدفع ،وتمثل هذه التجربة مفتاحاً لفهم شخصية الاقتصادي الكبير التي كانت تتميز بالجدية والالتزام وتحمل للمسؤولية وتجنب كل ما يثير الشبهات”.
لم يعمل [محمد سيد ياسين] فى الزجاج فى بادئ الأمر ولكنه كان أول من أدخل فكرة النقل العام إلى مصر بإختراعه سيارات أوتوبيس تجوب شوارع القاهرة وهناك روايتان لدخوله هذا المجال فتقول الرواية الاولى أنه حين وصوله إلى محطة السكة الحديد قادما من الإسكندرية عام م1921 كانت الشوارع قد تحولت إلى كتل طينية بسبب الامطار وكان الترام متوقفا بسبب إضراب للعمال فإستأجر حنطورا وطلب منه السائق أضعاف الاجرة المقررة ومن هنا فكر فى تحويل سيارتى اللورى اللتين كان يملكهما لوسيلة نقل للركاب مثل الترام.
أما الرواية الثانية التى رواها إبنه [سيد ياسين] فهى أنه بعد الحرب العالمية الأولى حصل على عطاء من الجيش الإنجليزى لتصنيع المنتجات الجلدية وأنشأ ورشة لصناعة الأحزمة للجنود والضباط والسروج لخيولهم ولظروف الحرب توقف إستيراد الجلود وبالتالى توقف عمله ولإنه كان ملتزما بعمله ويتقنه، عرض عليه المسئول عن المهمات فى الجيش الإنجليزى أن يختار ما يشاء من مخلفات الجيش قبل بيعها فى المزاد وبالفعل إشترى [ياسين] عشرة هياكل لسيارات نقل خردة مقابل 10 جنيهات لكل شاسيه.
وبعد انتهاء الحرب خطرت له فكرة تصنيع سيارات لنقل الركاب في الشوارع مثل الترام واستعان باثنين من النجارين وطلب منهم أن يصنعا فوق هياكل سيارات النقل «دكك خشبية» بمساند للجلوس عليها كما في الترام وتحولت سيارات اللوري الى أوتوبيسات مفتوحة من الجانبين ويتم الصعود اليها بواسطة سلم ثم أضاف اليها جوانب من الصفيح وبذلك يكون [محمد سيد ياسين] أول من أنشأ أوتوبيسا لنقل الركاب دون أن يراه من قبل.
أكثر من شهر و نصف الشهر لم يصعد راكب واحد إلى متن أي من (22) أتوبيسا واقترح كثيرون على [ياسين] أن يغلق باب الخسارة لكنه طلب من الأتوبيسات أن تتحرك طول اليوم في الشوارع حتى يألفها الناس وينسوا خوفهم منها.
شخص واحد جريئ صعد يوما إلى واحد من تلك الأتوبيسات وعندما عاد بالسلامة إلى المقهى أخبر أصدقائه بعدها انفتح باب الخير ونجح المشروع وحقق مكاسب خيالية.
كان مشروع [ياسين] خطيرًا رغم بساطة الفكرة لقد استطاع شاب مصري أن يثبت قدرة المصريين على الإبداع والتطور وأن الأمر ليس حكرًا على البريطانيين فقط، انزعج أصحاب المصلحة من رحلة صعوده وتم سحب رخص الأتوبيسات من قبل الإنجليز ومنحها إلى شركة إنجليزية ولكنه بقى مديرا للشركة.
في غرفة خفير منزله وقف [محمد سيد ياسين] أمام لمبة الجاز البلجيكية متسائلًا عن تاريخ صناعة الزجاج ،كانت أفكار [ياسين] لإعادة إحياء المنتج المصري بمثابة تحدي لمزاعم اللورد [كرومر] تجاه الشعب المصري وكعادته نفذ أولى خطواته فور اكتمال المشروع في رأسه.
انطلق [محمد سيد ياسين] إلى ألمانيا ومنها إلى عدة دول مجاورة في زيارات لمصانع الزجاج هناك وحصل على ما يكفيه من خبرة للانطلاق ،تأمل العملية الإنتاجية وما الذى تحتاج إليه ثم عاد محملا بالعلم و بعدد من خبراء الصناعة الأجانب.
قرر [ياسين] أن يقتحم السوق من النقطة التي تجعله صاحب نصيب مهم فيها فتخصص في صنع بلورة اللمبة الجاز ،شق طريقه بصعوبة وسط أباطرة الاستيراد الذين يقفون بضراوة في وجه أي صناعة وطنية وعلى مدى ثلاث سنوات كان يخسر كثيرا ،لأن العمال المصريين لم يتقنوا الصنعة بعد وعندما أتقنوها كان بحاجة إلى إقناع المصريين وكل بيوتهم تعتمد على اللمبة الجاز بتشجيع المنتج الوطني ،كان النجاح بطيئا لكن بدأب [ياسين] المعروف استطاع أن يجد لنفسه مكانا في السوق ثم رأى أن الوقت أصبح مناسبا ليصبح مشروعه أكبر وأوسع نشاطا.
اختار [محمد سيد ياسين] قطعة أرض في شبرا الخيمة وصمم مصنعه الكبير الذى يحلم به ،ثم حسب حسبته فوجد أنه بحاجة إلى 80ألف جنيه ،رفضت جميع البنوك أن تضع يدها في يد هذا المغامر الذى باع أرضه و أتوبيسات النقل و جميع ما يملك من أجل مصنع زجاج إلا [طلعت حرب] الذى قرر أن يقرضه ما يطلب سألوه كيف تفعل ذلك؟
قال [طلعت حرب]:”للأسباب نفسها التي رفضتم من أجلها إقراضه ،فهذا رجل باع كل ما يملك من أجل مشروع ولست أدرى كيف تبدأ الصناعة إلا بمجازفة مدروسة؟».
من هنا انطلق [سيد ياسين] لتنفيذ مشروعه الضخم فأنشأ أول مصنع للزجاج المسطح في الشرق الأوسط وزار مصانع الزجاج في ألمانيا واستعان بمدربين من التشيك ليبني مصنعا جديدا بأحدث تقنيات صناعة الزجاج في العالم ويتطور المصنع ويسد احتياجات مصر في مرحلة البناء والتعمير بعد الحرب العالمية الثانية ،ونجح المصنع في إنتاج أول زجاجة كوكاكولا عام 1946م لينتهي تماما استيراد زجاجات المياه الغازية الفارغة من الخارج.
كما أنشأ شركة القاهرة لإنتاج المعدن وشركة مصر للأعمال الهندسية والنقل وأصبح [سيد ياسين] ملك الزجاج في مصر.
في سنوات قليلة كبر مصنع “ياسين” للزجاج استقرت منتجاته في كل بيوت مصر على اختلاف مستوياتها، تحول مصنعه إلى مؤسسة صناعية اجتماعية فاختار إلى جوار المصنع قطعة أرض مطلة على النيل صممها كملاعب وحمام سباحة و مسرح للعمال ،في البداية كان يعمل في المصنع أكثر من (150) مهندس من ألمانيا و تشيكوسلوفاكيا ،طوروا المهنة ورفعوا مستوى العمالة المصرية ثم عادوا إلى بلادهم وفي صحبتهم عمال مصريون يدربون الخواجات هناك.
عادت صناعة الزجاج إلى مصر كما بدأت قبل قرون وكان طقم “ياسين” أول قطعة في جهاز كل عروس مصرية سواء طقم المشروبات المرشوش بالرمل الملون أو طقم القهوة المطلي بخطوط ماء الذهب أما لمبة جاز “ياسين” فقد كانت شريكة كل بيوت مصر في لحظات الونس.
ثم قامت الثورة وتحول مصنع [ياسين] إلى مصنع قطاع عام “النصر للزجاج والبلور” وفي المقابل أعطت الدولة ل[ياسين] سندات مالية تقدر بـ 15 ألف جنيه مصري عائدها الشهري 30 جنيها فقط ،و ضاع ختم “ياسين” الموجود أسفل الأكواب وانتهى الجزء اليدوي الفني في الصنعة وصار ميكانيكيا فظا ،وكان التأميم قاسيا عليه بعض الشيئ فبحسبة بسيطة لم يعد المصنع يدر عليه إلا جنيهات قليلة كان يصرفها على علاجه حتى رحل عام 1971م.
اقرأ أيضاً:
مصر.. التعليم ترد علي إلغاء إجازة السبت من المدارس بالعام الدراسي الجديد
حالة الطقس غدًا ودرجات الحرارة المتوقعة في القاهرة والمحافظات
حقيقة رفض استقبال شحنات المنتجات الزراعية المصرية المصدرة للخارج