الخبير المصرفي خالد عمران يكتب: ” الأوقاف بين العمل الخيري والتنمية المستدامة”

خلال عملي المصرفي في بنك يتعامل وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية ، طلب أحد العملاء تمويل بناء مشروع مجمع سكني واستثماري كوقف خيري، على أن يتم سداد التمويل من ريع الوقف، ويُستخدم الفائض في الغرض الخيري المخصص. ومن هنا توجهت لدراسة ما هو الوقف وتاريخه، ووضعه القانوني، وكيفية إدارته، وانتهى بي الأمر إلى الإعجاب الشديد بهذه الفكرة التي تجمع بين الخير والاستدامة المالية.
الوقف، بحسب المفهوم الإسلامي، هو حبس الأصل وتسبيل المنفعة، أي تخصيص مال أو عقار أو أصل معين بحيث يُمنع بيعه أو التصرف فيه، بينما يتم توجيه ريعه لأغراض الخير أو النفع العام أو لغرض خيري محدد. وقد تطوّر هذا النظام على مدى قرون ليصبح واحدًا من أبرز أدوات التكافل الاجتماعي والتمويل التنموي في المجتمعات الإسلامية، ومنها مصر التي تمتلك أحد أقدم وأغنى التجارب في مجال الوقف.
بدأ العمل بالوقف في مصر منذ دخول الإسلام ، حيث وُقِفت الأراضي والمساجد لخدمة المحتاجين وطلبة العلم. وتطورت الفكرة خلال العصور المتتالية، فشهد العصر الفاطمي توسعًا في الأوقاف الموجهة للتعليم والدين، خاصة عبر الأزهر الشريف، الذي تأسس بدعم وقفي. وفي العصرين الأيوبي والمملوكي، أصبحت الأوقاف جزءًا لا يتجزأ من النسيج المؤسسي للدولة، حيث ظهرت المدارس الوقفية، والمستشفيات ” البيمارستانات ” ، والمرافق العامة، وحتى سبل المياه، وكانت تدار تحت إشراف قضاة ونُظار. وخلال الحكم العثماني أصبح هناك ما يُعرف بالوقف الأهلي، وهو الوقف الذي يخصص ريعه لصالح أسرة الواقف أو ذريته، ثم يتحول بعد ذلك إلى جهة خيرية عند انقطاع النسل. وبعدها بدأت الدولة تتدخل تدريجيًا في تنظيم الأوقاف وإدارتها، خصوصًا منذ عهد محمد علي باشا، الذي أنشأ “هيئة الأوقاف” في 1835 ، والتي تم تحويلها نظارة «وزارة» في 1913. وفي عام 1953 تم نقل الإشراف على المساجد الموقوف عليها وقفًا خيريًًَّا إلى وزارة الأوقاف، وبعدها ضم جميع المساجد الأهلية للوزارة. واتجهت الدولة إلى ضم الأوقاف الأهلية ضمن إطار الأوقاف العامة الخيرية، لتُدار جميعها تحت إشراف وزارة الأوقاف. وقد خضعت تلك الأملاك إلى قوانين تُنظّم استثمارها وتحديد أوجه إنفاق ريعها، بما يضمن الحفاظ على أصل الوقف وزيادة عوائده.
ما يلفت الانتباه أن فكرة الوقف لا تقتصر على المساجد أو الفقراء فقط، بل تتعدى ذلك لتشمل أغراضًا متنوعة مثل تمويل المنح الدراسية، تطوير الجامعات، بناء المستشفيات، … الخ.
ومن أبرز النماذج في العالم الإسلامي، وقف الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله، حيث تم وقف قلعة أجياد في مكة المكرمة وكل ما تشتمل عليه من منافع لخدمة المسجد الحرام، وأُقيم على أرض الوقف مشروع عملاق يتكوّن من سبعة أبراج سكنية، ومركز تجاري ضخم، وأسواق ومطاعم، بإطلالة مباشرة على ساحات الحرم المكي الشريف. وتم إعداده بناءً على دراسات جدوى اقتصادية، ليصبح مدينة متكاملة الخدمات تُمثّل نموذجًا للوقف الاستثماري المستدام.
ومن اللافت للنظر أن نظام الوقف لا يقتصر على العالم الإسلامي، بل نجد له تطبيقات واسعة وناجحة في دول العالم مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وإن كانت تحت مسمى مختلف مثل “endowment”. ومن أبرز النماذج في هذا السياق جامعة هارفارد، التي تمتلك أكبر وقف جامعي في العالم، بقيمة تجاوزت 50 مليار دولار حتى عام 2023. يُستثمر هذا الوقف وتُستخدم عوائده في تمويل المنح الدراسية، ودعم الأبحاث، وتطوير المرافق الجامعية. اما في المجال الصحي، يُعد مستشفى مايو كلينك نموذجًا بارزًا للوقف الطبي، حيث يمتلك وقفًا خيريًا تقدر قيمته بأكثر من 5 مليارات دولار. وتُستخدم عوائد هذا الوقف في تمويل الأبحاث الطبية المتقدمة، وتقديم الرعاية المجانية أو المدعومة للمرضى غير القادرين، إضافة إلى تطوير التجهيزات والخدمات الطبية. وتخضع تلك الأموال لإدارة احترافية من خلال مجالس أمناء مستقل، وتُستثمر في أدوات مالية وعقارية تضمن تحقيق عوائد مستدامة. كما تُمنح التبرعات إعفاءات ضريبية سخية، مما يشجع الأفراد والمؤسسات على إنشاء المزيد منها.
وفي النهاية، فإن الوقف ليس مجرد موروث ديني أو اجتماعي، بل هو أداة اقتصادية مرنة قادرة على دعم قطاعات التعليم والصحة والتنمية المستدامة، إذا أُحسن توظيفه وإدارته. التجارب المعاصرة، سواء في العالم الإسلامي أو في الغرب، تُظهر أن الاستثمار في الوقف يمكن أن يُحدث أثرًا حقيقيًا في حياة الناس. الوقف ليس فقط صدقة جارية، بل أداة تنموية شاملة تساهم في بناء المستقبل وتعزز من قدرات المجتمع على مواجهة التحديات.