حين التقى المسيحيون بالمسلمين أول مرة
صدر هذا الكتاب عام 2015 لمؤلفه الأمريكي مايكل فيليب بن، أستاذ الدراسات الدينية في جامعة ستاندفورد في ولاية ماستشوستس الامريكية، وظهر بالترجمة العربية عن دار الجليس في الكويت 2022، تولى ترجمته عبد المقصود عبد الكريم، وهو شاعر ومترجم وطبيب نفسي مصري، وهذا ما يفسر اختياره لعنوان الكتاب بصياغة أدبية.
تكمن أهمية هذا الكتاب، في اشتماله على ثمانية وعشرين نصاً باللغة السريانية، كتبت بعد اقل من عقد على وفاة النبي محمد 632م، حتى بداية الحكم العباسي عام 750م، مؤلفوها عاشوا في مناطق ضمن تركيا والعراق وايران وبلاد الشام، تدرج قرارات كنسية، سجلات الكوارث، سجلات الحكام والملوك، مناظرات عقائدية، كتابة ذكريات على أوراق الكتب، رؤى شعرية وغيرها، تُصنَّف جميعها ضمن المؤلفات التاريخية التي تعود الى مصنفات ما قبل الحداثة، وتحمل هذه الميزة جنبة معرفية مهمة، لأن المؤرخين السريان القدامى، لم يحظوا باهتمام كبير من قبل المؤرخين العرب، كونهم لم يكتبوا بغير السريانية، وللعلة نفسها اختفت كتاباتهم عند المؤرخين المسيحيين الذين كتبوا باللاتينية واليونانية.
تاريخ الكتابات
تعود هذه الكتابات الى الفترة التي عاد فيها الامبراطور الروماني هيرقل منتصرا على الساسانيين 630 م، بعد ان زحف بجيشه من أرمينيا حتى المدائن (عاصمة الفرس) وقتل كسرى الثاني وما لبث ابنه ان عقد صلحا مع الامبراطور البيزنطي وفيه تنازل الفرس عن كل ما غنموه في احتلالهم لبيت المقدس الذي استمر اكثر من خمسة عشر عاما، من تلك الغنائم المعادة (الصليب) الذي شهد آلام السيد المسيح، ودخل هرقل بيت المقدس بحفل مهيب، وبإدارته توحدت مملكة البيزنطيين، وهي نفس السنة التي دخل النبي محمد فيها فاتحا لمكة، ولم تمضِ سوى ست سنوات من هذا التاريخ الا واجتاح المسلمون بلاد الشام وهزمت الجيوش الرومانية بمعركة اليرموك، واطلق هيرقل كلمته الشهيرة «وداعا سوريا».
كان السريان يقطنون تلك الأراضي، وشهدوا معارك المسلمين ودخولهم بلاد الشام، لذا فإن أهمية سجلاتهم تعود الى كونهم المسيحيين الأوائل الذين التقوا بالمسلمين، وكانت لهم انطباعات خاصة بهم تجاه المسلمين، ووقعوا تحت حكم المسلمين بعد وفاة النبي محمد عكس البيزنطيين واللاتينيين، وقد عمل السريان في التشكيلات الإدارية للدولة الإسلامية الى زمن عبد الملك بن مروان، اذ بدأ حملة للتعريب وتحولت اللغة السريانية الى لغة شعائرية.
السريان تعاملوا مع الفاتحين لمصلحة مذهبهم ضد المذهب الآخر (المذهب الملكاني) الذي ذاقوا الامرين في كنفه، وجاء ذكر الهاجريين لأول مرة (العرب الذين منحهم الرب السيطرة على العالم في هذا الوقت).
صفحات مهمة
يرجع المختصون بالكتابات القديمة، الذين درسوا هذه الوثائق، اول ذكر لاسم النبي محمد الى عام 636، في كتابة على بطانة نسخة من الكتاب المقدس من دون غلاف، كتب مقتنيه بضعة سطور ذاكرا فيها معركة اليرموك، وقد وردت كلمة محمد واضحة المعالم، على ان جيوشه انتصرت على جيوش هرقل، ويبدو ان كاتب تلك السطور كان شاهدا على المعركة، لأنه يقول «رأينا»، ان تلك الصفحة لها أهمية كبيرة عند علماء المخطوطات وقد اطلقوا عليها اسم (تقرير 637م)، صحيح ليس هنالك نصوص قبل وفاة النبي محمد 632م، لكن بالمقابل نرى ان اغلب النصوص المسيحية الباقية كتبت بعد منتصف القرن الثاني الميلادي وهي لا تتجاوز الصفحات الخمس. ان هذه الوثائق السريانية كتبت قبل الثورة العباسية 750م، منها مخطوطات تحدثت عن بداية التوسع الإسلامي (الهاجريين) بشكل مقتضب جدا، لأن كاتبيها لم تكن لديهم فكرة عن أهمية هذه الحركات الاجتماعية مستقبلا.
ومن تلك النصوص ما يحمل اللوم على المسيحيين الذين اسلموا للتخلص من الجزية، ونصوص أخرى على شكل اسفار رؤيا بقوالب شعرية، اشبه بكتب الملاحم والفتن، تتحدث عن الرب الذي سيعاقب الرومان، لأنهم اضطهدوا المسيحيين، وسيكون عقابهم على ايدي العرب، أبناء هاجر، ثم يعاقب العرب بظهور يأجوج ومأجوج، ويأتي المسيح الدجال وتحدث نهاية العالم ويحل يوم القيامة. ومنها أجوبة فقهية مسيحية اشبه (بالرسائل العملية) فيها إجابات عن تنظيم العلاقات الدينية، كما في رسائل يعقوب الرهاوي 708م.
كتاب النقاط البارزة
وفي صفحة باقية من مخطوطة للعهد الجديد كتبت عام 682م، يذكر فيها التاريخ الهجري، وهذه إشارة مهمة، كذلك احد اقدم استخدامات مفردة (الهاجريين) التي تعني العرب آنذاك، وهذا النص مكتوب على الورقة الأخيرة على هذا النحو (اكتمل سفر العهد الجديد هذا في سنة 993 اليونانية، وسنة 63هـ وفقاً لسنة الهاجريين أبناء إسماعيل بن هاجر وإبراهيم).
اما موضوع مكة (كنى عنها ببيت الله) فقد جاء في كتاب النقاط البارزة للراهب السرياني «يوحنا بن الفنكي» الذي عاش في زمن عبد الملك بن مروان.. وظهر احد العرب اسمه الزبير، اعلن انه خرج متحمسا الى بيت الله، وصل محرابهم في مكان ما في الجنوب واقام هناك… هزموه واحرقوا محرابهم بالنار 687م – 67هـ.
وفي السجل المسمى (سجل 705م) الذي كتب في العصر الاموي، ترد قائمة بأسماء من حكم العرب من محمد الى الوليد بن عبد الملك وتستثني فترة حكم الامام علي بحجة استعار الحرب.
تضم هذه الوثائق السريانية، مناظرتين، الأولى بين عامل عمر بن الخطاب على حمص، تصفه المناظرة بأمير الهاجريين، وتسمى مناظرة يوحنا والأمير، تدور حول طبيعة السيد المسيح الناسوتية واللاهوتية، اما المناظرة الثانية المسماة «مناظرة بيت حلي» فقد جرت بين احد الرهبان في دير يعرف ببيت حلي في العراق، وبين عربي من تلك التخوم، المناظرتان تشيران الى بداية الحوار بين الملتين، ويفهم منهما ان مصطلح (المسلمين) لم يستعمل بعد من قبل المسيحيين قبل العصر العباسي، بل كانت مفردتا الهاجريين والعرب الشائعتين في كتاباتهم.
مساحة بحثية
ان هذه الوثائق الثماني والعشرين، التي ضمها كتاب «حين التقى المسيحيون بالمسلمين اول مرة»، تحمل الكثير من المساحة البحثية للدارسين، وكل وثيقة يمكن ان تنفرد بدراسة نافعة في مضمارها، خاصة ان المؤلف قد ارفقها بيبلوغرافيا وافية من المصادر التي يمكن أن تعبّد طريق الباحثين للوصول الى ترصين السرديات العربية التي يعتريها الكثير من مفازات القطع التاريخي، الذي بنت عليه «مدرسة المنقحين او المراجعين الاستشرافية، منهجها، وأثارت جدلا واسعا منذ تأسيسها في سبعينيات القرن المنصرم، وقدم مؤسسوها سرديات تاريخية تستند الى المنهج النقدي التاريخي المعزز بالأركيولوجيا، متوسلين دراسة النقوش والعملات المعدنية والوثائق التاريخية الاصلية، بعدها توالت مؤلفات هذه المدرسة بالظهور، فأصدر مؤسسها (جون وانسبرو 1928 ـ 2002) كتابه الأول «دراسات قرآنية» عام 1977 وتبعه بثلاثة كتب أخرى في نفس المضمار. وفي نفس العام أصدرت تلميذته باتريشا كرون (1945 ـ 2015) كتابها «الهاجريون.. صناعة العالم الاسلامي» والذي لاقى نقاشا واسعا بين مؤيد ومعارض عند ترجمته للعربية 1999 وكان كتابها هذا بالاشتراك مع المؤرخ مايكل كوك (1940) الذي اصدر، هو الآخر، كتابه {محمد}، بعدها اتسعت دائرة الإصدارات التي تدور حول ما وصلنا من اسفار لم تكتب قبل العصر العباسي بأعلى تقدير.
والواقع ان هذه الطروحات، لم تخلُ من جانب إيجابي ومفيد، فقد حفزت الكثير من المتخصصين في التاريخ الإسلامي (عربا وأجانب) لتمحيصها باستعمال نفس ادواتها البحثية، منها كتاب {حين التقى المسيحيون بالمسلمين اول مرة}.