مقالات

من أكل لسان الدولة .. هل تآكل أمام سطوة الراقصات؟!

بقلم: محمود الشربيني

الرقص جميل.. جميل الرقص.. أنا من عشاقه ومحبيه.. انتمائي أصيل لمدرسة الفن للحياة.. لا أتزمت أبدًا مع الفن. ولا أبحث عن عورات الفنانين.. مالم يعتبروا هم أنفسهم أن الفن عورة كما فعلت ولا تزال تفعل بعض اليائسات من رحمة وجمال وقدسية الفن.

 الفناة تحية كاريوكا كيان فني غني وملهم وثري.. نموذج مهم بالنسبة لي.. تمثيلا ورقصا.. ونضالا حقيقياً. لم أرها يوماً في رقصة خليعة أو في وضع أو في ملابس غير راقية أو لائقة.. هي قمة الرقص الشرقي عندي (قبل مقال إدوارد سعيد وبعده)!

 سامية جمال كانت تلميذة في معهد كاريوكا.. السيدة حسنة السيرة والسمعة.. إلا من هذا الرجل الذي تزوجته.. لا أحب أن أتذكر اسمه.. فنان الـ”حلاوة” الطحينية.. أو الطينية لا فرق.. فقد كان يتغني بـ”الوفد ولو فيها رفد”.. وبالتالي يهيل التراب على ثورة يوليو..

في مسرحياته مثل يحيا الوفد.. ومايحياش! سامية جمال رقصة بديعة تشعر أنها تتبتل في لحظتها الإبداعية الراقصة.. كأنها تدلف إلى محراب.. تعرف وقع قدميها.. فلكل إصبع منها إطلالة وإيقاع محسوب.. كان هذا إحساسي.. شعوري الذي يتسلل إلى.. ولست أفرضه على أحد.. يمكن قبوله كما يقبل الناس من سعاد صالح.. (الفقيهة الأزهرية الدكتورة سعاد صالح).. فتواها بإباحة شرب الحشيش. ليت أحمد فؤاد نجم كان حيا.. فقد نشر الأستاذ عادل حمودة على غلاف روزا اليوسف ذات عدد أن الفاجومي يطالب بأن يكون “الحشيش مشروبا قوميا للمصريين.. وجاءت سعاد صالح في الألفية الثالثة.. وبعد العام الخمسة والعشرين منها.. لتبروز حلمه وتضعه على طاولة أحلام المصريين في علاقاتي اليومية العادية.. أعرف فتيات وسيدات يتناولن الحشيش بضراوة ونهم، وحياتهن لا تستقيم من دونه.. يستيقظن ولا يفقن من إغفائهن إلا بفنجان قهوة مدجج بالحشيش.. أي بتعميرة أو اثنتين.. يعلو بهما الدخان الأزرق في الرأس.. ولا شيء يمكنه أن يهدد تلك اللحظة.. حتى لا يطير الدخان!

 رقصة سالومي ليوحنا المعمدان الأكثر احتشاما.. لا تقارن بما يتسرسب من إبداعات وخيالات رقصات الدلوعة سهير زكي.. والتي تعرف أنها دلوعة ولا تعبأ بأي شيء.. هي تتدلل وتعرف أنها ملكة هز الوسط بجسدها البض.. وابتسامتها الساحرة.. من فمها الواسع ذي الإيحاءات التي لا تحدها حدود. تشاهدها وهي تتلوى . فلا تتعاطف مع الأستاذ الدكتور حسن جوهر الذي كان يقدم برنامج عالم الماء في التليفزيون.. وكان يقوم بنفسه على الإعداد والتقديم.. ما يتطلب سهر الليالي الطويلة . ولكن ماذا يحدث له عند خزينة المال؟ يقف – وهو العالم الجليل متحسرا محزونا وهو يمد يده ليتقاضي تسعة جنيهات.. بينما تقف سوسو هانم.. سهير هانم زكي لتقبض مقابل هز كل هذا الجمال تسعين جنيها أو تسعة آلاف.. لا تكفي حسرات العالم د.جوهر لكي تشفق الدولة على هذه الفئة فتعدل الميزان المختل.. فالحاصل أن سهير زكي حينما شعرت بتأفف جوهر. واستغرابه من أنها تتقاضي مبالغ طائلة مقابل هز وسطها.. فقالت له: حد قالك متهزش..؟!(هذه رواية بتصرف فالخبثاء يروونها بطريقة أفضل وأكثر إيلاما وسخرية!) زمان كان فيه دولة.. فإذا خرج سعيد صالح عن النص لدواعٍ سياسية كبلوه في الأصفاد وسجنوه شهرا.. وكان عندهم حق فهو خرج عن النص فعلا! ولم “يتبلى” عليه أحد.. زمان كانت الرقابة على المصنفات الفنية لديها سطوة نافذة.. وكانت ملابس الرقص الخليعة تذهب والراقصات إلى حيث ألقت الدولة بكل سخامها في طريقهن لتعلمهن الأدب.. واللباس المحتشم.. ومنع الحركات التي تثير الغرائز.. ومن يحاول الخروج على هذه القوانين يمكن أن يسجن وتسحب رخصه.. ويتم تجريسة.. بدل الرقص كان لها مواصفات.. فهي للرقص على خشبات المسرح وليس على سراير غرف النوم.. ذات محاضرة في ثمانينيات القرن الماضي عن الفن والتذوق ومكافحة التطرف.. تحدث الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين وكان ضيفاً على قاعة إيوارت الشهيرة بالجامعة الأميركية.. وبحضور حشد كبير ملأ مدرجات القاعة.. التي لفت انتباهها تركيز الأستاذ بهاء على فتاة اسمها فؤادة.. سألته سؤالا عن رأيه في الرقص.. وخاصة رقص الباليه. ومع أن بهاء ظل طيلة الوقت منشغلا بالرد على فؤادة إلا أنه كان شديد التركيز وصفاء الذهن عندما قال: كيف يمكن لرقص الباليه أن يثير غريزة أي متفرج ؟! إن لكل حركة من حركات الراقصين معانٍ معينة فإذا لم يركز المشاهد مع الحركات فإنه لن يفهم الباليه الذي يشاهده. إذا انصرف المتفرج عن الفن وتابع غريزته فلن يفهم ما جاء إلى الأوبرا ليشاهده من فنون الباليه.

كان الرد بليغا ومعبرا.. ولكن كان هذا زمان الأساتذة: زمان أحمد بهاء الدين.. الذي استدعي وهو على فراش المرض أنبل المشاعر الإنسانية عند الأستاذ هيكل.. ليكتب عنه بكلمات مؤثرة: كانت مناسبتها مرض بهاء بعد اندلاع حرب الخليج.. والتي أصابت الأستاذ بهاء بصدمة عصبية ونزيفا أقعده سنوات في سريره بلا حراك.. يعترف الأستاذ هيكل بحزن وأسى: “لم أفتقد رأيا كما افتقدت رأى أحمد بهاء الدين. وفى وسط الطوفان العارم الذى ساح فيه الحبر على الورق أكثر مما ساح من الدم في ميادين القتال، فإن كلمة أحمد بهاء الدين كانت هي الشعاع الوحيد الغائب في وهج النار والحريق. كان الكل حاضرين، وكان وحده البعيد مع أنه كان الأقرب إلى الحقيقة والأكثر قدرة على النفاذ إلى جوهرها وصميمها. ولم يكن ابتعاده الاضطراري مجرد خسارة للعقل المتوازن فى أزمة جامحة، ولكن الخسارة كانت أكبر لأن معرفته ببؤرة الصراع كانت أدق وأعمق”. هذا زمن بهاء، وهيكل، وزكي نجيب محمود ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ.. ولم يكن كله زمن المجون والخلاعة.. صحيح كان هناك شارع الهرم.. وكان المصريون حساسين جدا من هذا الشارع الذي يعج بالملاهي وبالراقصات وبالخمور والرقص الماجن، والسفه الشديد في توزيع النقود (بالنقوط) وكان الشعب منزعجا من كل إشارة تسيء إلى تقاليده وأعرافه وقيمه.

 تلك التي تدوس عليها الثروة والنفوذ الخليجي الممتد في شارع الهرم.. كان هناك أساطين من رموز المال والثروة.. من يراجع أعداد روزا اليوسف والكتب التي أصدرها عادل حمودة وزملاؤه -تلامذته أيضا بتعبير المحبة- سيكتشف أن هناك أسماء حكمت هذا الشارع.. نهاية عصر أنور السادات وسنوات طويلة من حكم مبارك.. قبل أن نصل إلى عصر الانحطاط الحالي.. كانت بدل الرقص جميلة.. وذات ذوق رفيع.. ولا تكشف عورات ولا تثير غرائز أو تستغل الحركة لإبراز مفاتن الراقصة. لم تكن بدل الرقص بهذه الفجاجة التي نراها الآن.. (بعض الصور رفقة هذا المقال الآن).. وكأن الدولة تآكل لسانها.. وتآكلت سطوتها أمام سطوة الراقصات!

صحيح أن الراقصة اللهلوبة.. الولعة. صافينار أعلنت توبتها أمس.. وظهرت متشحة بملابس سوداء محتشمة مناشدة طوب الأرض الذي يحتفظ لها بصور بديعة ساخنة جدًا.. جدًا.. فوتوغرافيا ووبثوث لايف ..هههه .. ماجنة .. خليعة .. متأوهة .. ناشدت وتمنت ألا ينشرها معجب ولهان.. تذكرنا بالطريقة التي تعاملت بها مع ماضيها بعد أن تمكن منه الشيخ شعراوي.. السندريلا شمس البارودي الفنانة المعتزلة.. وكانت نجمة إغراء تنافس الجميلة هند رستم.. الخبثاء ردوا على ذات النار وراقصة الدلال والنار صافينار بأننا “مبيقناش ناكل من الكلام ده”. قالوا لها: “أنت أعلنت توبتك قبل كده كذا مرة ورجعت فيها”! -تحية كاريوكا بقلم البروفيسور إدوار د.سعيد فنانة مقدرة ومحترمة ومثقفة وقادت اعتصام الفنانين الأشهر.. وتركت رصيداً من الفن -تمثيلا ورقصا ورؤي فكرية ما يوحي بأن الفنون المبدعة ليست إلا موهبة متفجرة في نفوس مبدعيها.. يحترمونها أولا فتحترمهن.. وتصنع اسمهم.. فهذه تحية كاريوكا، وتلك صافينار.. أو فراولة.. أو العراة.. كل هؤلاء الشعراء على خشبة المسرح!

هل تآكلت سلطة الدولة؟ هل تمتلك الراقصات سيديهات -مثل مرتضى منصور-تخشاها الدولة؟ كيف تسمح الراقصات الجدد لأنفسهن بكل هذا التعري. وإبراز هذه الكتل والشحوم البيضاء والحمراء؟! هل هو تعرٍ في حماية الدولة؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ad 12 all pages
زر الذهاب إلى الأعلى