مقالات

خالد عمران يكتب: “استقلالية البنك المركزي… حين تكون السياسة أكبر خطر على الوضع الاقتصادي”

في خضم التطورات الأخيرة في السياسة الامريكية والحرب التجارية القائمة بين أمريكا والصين و في ظل الضغوط السياسية المتزايدة علي الوضع الاقتصادي . يبرز في هذا السياق مفهوم استقلالية البنك المركزي، ليس فقط كنص قانوني، بل كممارسة واقعية تحدد مسار الاقتصاد بأكمله. فاستقلالية البنك المركزي لا تعني الانفصال التام عن الدولة، وإنما تعني قدرة هذه المؤسسة على اتخاذ قراراتها بمعايير اقتصادية علمية محضة مستقلة ، بعيدًا عن التوجيهات السياسية التي قد تفضل المكاسب قصيرة الأجل على حساب الاستقرار طويل الأمد. في هذا الإطار، تبرز أهمية أن يتمتع البنك المركزي بحرية كاملة في رسم السياسة النقدية، والتحكم في أدواته كالفائدة وسعر الصرف، دون أن يُستخدم كأداة لتمويل عجز الموازنة أو دعم قرارات حكومية ذات طابع سياسي أو شعبي.
تكشف التجارب الواقعية في بعض الدول عن فجوة كبيرة بين النصوص والقوانين من جهة، والممارسات الفعلية من جهة أخرى ، فبالرغم من استقلالية البنوك المركزية تقريبا في معظم الدول الا ان الممارسات الفعلية تختلف ، فقد تُدار السياسة النقدية بشكل وثيق مع الحكومة، وتُستخدم أدوات البنك المركزي لتمويل الاحتياجات المالية للدولة بشكل مباشر أو غير مباشر، عبر أدوات الدين العام أو تسهيلات للبنوك المحلية. هذا النهج لا يهدد فقط الاستقلالية، بل يعيد إنتاج التضخم، ويقوض الثقة في العملة المحلية، ويضعف مناعة الاقتصاد في مواجهة الأزمات. الأمر لا يتوقف عند التمويل، بل يمتد إلى طريقة إدارة سعر الفائدة وسعر الصرف. ففي حالات عديدة، يتم تأجيل قرارات نقدية ضرورية أو اتخاذ قرارات عكس الاتجاه المطلوب اقتصاديًا، إرضاءً لاعتبارات اجتماعية أو سياسية. والأسوأ حين تتغير قيادة البنك المركزي لأسباب غير فنية، في توقيتات حرجة، مما يرسل إشارات سلبية للأسواق والمستثمرين حول هشاشة الإطار المؤسسي وقدرته على الصمود أمام الضغوط.
على الجهة المقابلة، أظهرت تجارب دول اخري مدى صلابة البنوك المركزية في مواجهة السلطة التنفيذية. فحتى في ظل ضغوط سياسية علنية ، تمسكت المؤسسات النقدية بمواقفها القائمة على أسس علمية، ورفضت التنازل عن دورها في حماية الاقتصاد من التضخم والانزلاق المالي. تلك النماذج تعزز قناعة راسخة بأن الاستقلالية ليست خيارًا إداريًا، بل ضرورة استراتيجية ، ففي الوضع الأمريكي الحالي نري ان الرئيس الأميركي يواصل التأكيد على أن تعافي الاقتصاد يرتبط بشكل وثيق بخفض أسعار الفائدة، مشددًا على أن “يجب تخفيض أسعار الفائدة أكثر”. ويكرر في تصريحاته انتقاداته لرئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي ( البنك المركزي الأمريكي) ، جيروم باول، واصفًا إياه بالبطء في اتخاذ القرار. وفي منشور على منصة “تروث سوشيال”، كتب الرئيس: “مع هذا الاتجاه التنازلي الواضح للأسعار، وهو ما توقعته تماما، يكاد يكون من المستحيل أن يكون هناك تضخم، ولكن قد يكون هناك تباطؤ في الاقتصاد ما لم يخفض السيد ‘متأخر للغاية’ ‘الخاسر الرئيسي’، أسعار الفائدة الآن”. كما وصف جيروم باول بـ”الفاشل الأكبر” بسبب قراراته المتعلقة بسعر الفائدة. وفي ظل هذا التوتر المتصاعد، أشارت تصريحات كبار المسؤولين في البيت الأبيض إلى أن الرئيس دونالد ترامب وإدارته يدرسون خيار إقالة رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، بحسب ما أفاد به كبير المستشارين الاقتصاديين يوم الجمعة. وفي المقابل أكد باول على أهمية استقلالية مؤسسته ، مشددًا على أن قرارات الفيدرالي تستند إلى اعتبارات اقتصادية بحتة، وليست خاضعة للضغوط السياسية. وأشار إلى أن خفض أسعار الفائدة في ظل التضخم الحالي قد يؤدي إلى تفاقم الوضع الاقتصادي .​
ختامًا، فإن الاستقلال الحقيقي للبنك المركزي يُترجم في الممارسة لا في النصوص، ويتجلى في قرارات نقدية مسؤولة، وقيادة محمية من الإقالة التعسفية، وشفافية عالية في التواصل مع الأسواق. وحدها هذه العناصر كفيلة بحماية الاقتصادات من الفوضى النقدية، وصون قيمة العملة، وتحقيق الاستقرار الذي تسعى إليه كل دولة تتطلع للنمو المستدام.
الخبير المصرفي : خالد عمران

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ad 12 all pages
زر الذهاب إلى الأعلى