“عندما تصادق الكلاب” بين الرمزية والواقع والفقر والوفاء
قصة محمد ياسين القطعاني تعيد النظر في معنى الصداقة خاصة عندما تكون هذه الصداقة بين طفل صغير يعاني الحرمان وبين الكلاب الضالة.
تتعدى قصة “عندما تصادق الكلاب” للقاص محمد ياسين القطعاني، وهي القصة الأولى من مجموعته القصصية” البتول والليل”، كونها مجرد سرد لحياة طفل فقير يعيش في أحد الأحياء المهملة بين ركام الخردة. هي تجربة إنسانية عميقة تضع القارئ أمام تساؤلات عميقة حول الطفولة، الوحدة، والأمل، وتعيد النظر في معنى الصداقة، خاصة عندما تكون هذه الصداقة بين طفل صغير وبين الكلاب الضالة، التي أصبحت بدورها رموزًا للوفاء والبساطة في عالم معقد وقاسي. فماذا عن بنيتها السردية والمكان ؟
تبدأ القصة بسرد يركز على صورة هادئة في بداية اليوم، حيث يشاهد الراوي الطفل من شرفة منزله قبيل غروب الشمس، مما يعكس الحالة الهادئة والمراقبة عن بعد. هذا السرد المبدئي، الذي يتمحور حول مراقبة الطفل في طريقه لبيع عقود الفل، يتطور تدريجيًا ليكشف عن عالمه الداخلي المتشابك. ولعل البُعد الزمني الذي يرمز له غروب الشمس، في الكثير من الأدب، يحمل دلالة على الانتهاء أو الفقدان، مما يهيئ القارئ لحدث مأساوي في نهاية القصة. فالراوي يختار استخدام وصف تفصيلي للبيئة المحيطة، التي تتسم بالفقر والقسوة، مثل مكب النفايات والسور المهدم الذي يحيط بـ”عشة” الطفل، وهي “غرفة” بسيطة للغاية بنيت من الخشب والصفيح. هذه البيئة لا تقتصر على كونها مكانًا ماديًا فحسب، بل هي أيضًا مكان نفسي، مليء بالفراغ، ولكنه يحتوي في ذات الوقت على علاقة حميمية بين الطفل والمكان الذي يعكس حالته النفسية من عزلة وحرمان. إن قدرة الكاتب على نقل هذا الشعور من خلال المكان، على الرغم من بساطته، هو ما يجعل القصة مشحونة بالعاطفة والصدق.
الشخصية المركزية في القصة هي طفل في العاشرة من عمره، يعيش في عالمٍ قاسٍ مليء بالفقر والصعوبات، لكنه يتمتع بقلب صافٍ وابتسامة دائمة. العلاقة التي تربطه بالكلاب تمثل واحدة من أعمق العلاقات الإنسانية في النص. الكلاب، التي كانت في البداية تمثل صورة حيوانية بدائية للرفقة في هذا المكان القاسي، تتحول مع تقدم الأحداث إلى رموز للوفاء والوفاق. الطفل ليس مجرد بائع عقود فلٍ على إشارات المرور، بل هو شخصية تعكس نقاءً إنسانيًا نادرًا. علاقته مع الكلاب تتجاوز العلاقة السطحية إلى مستوى من التكامل الروحي. ففي كل يوم، يقدم لهم الطعام، يعتني بالجرو المصاب، ويشاركهم حياته بالكامل. وعلى الرغم من فقدانه للعديد من مقومات الحياة الأساسية، إلا أن هناك إحساسًا متجذرًا داخله بالمسؤولية والرعاية تجاه هؤلاء الكائنات البسيطة. هذا الصدق في العلاقة يُظهر أن الإنسان يمكن أن يجد معنى في أصغر التفاصيل إذا أوجد نفسه في علاقة من الحب والعطاء، حتى في أسوأ الظروف.
أما الطفلة التي تبيع عقود الفل، فهي جزء من الحياة اليومية للطفل. هي رمز آخر لبراءة الطفولة، التي لا تقوى على البقاء طويلاً في مواجهة قسوة الحياة. علاقة الطفل بالطفلة غير متطورة بشكل عاطفي، بل تظل مقتصرة على شراكة عمل بسيطة، لكن هذه العلاقة، بالرغم من بساطتها، تعكس الحاجة المتبادلة للوجود مع الآخر، والبحث عن الأمل في تفاصيل الحياة الصغيرة. وكأن كل شخصية في هذا النص تمثل جانبًا من جوانب الإنسانية التي تتمسك بالابتسامة رغم قسوة الواقع.
تتناول القصة التيمة الرئيسية المتمثلة في الفقدان والصداقة في أبسط أشكالها. الطفل، الذي لا يملك الكثير في حياته، إلا ابتسامته ورفاقه من الكلاب، يفقد هذا العالم فجأة في حادث مأساوي. الفقدان في هذه القصة ليس مجرد حدث عابر، بل هو تحول درامي يطرح تساؤلات عميقة حول علاقة الإنسان بالمكان والمخلوقات الأخرى، وهل يمكن للصداقة أن تتجاوز حدود البشر؟ إذ لا يقتصر الفقدان على الطفل وحده، بل يمتد إلى الكلاب التي كانت تشارك الطفل ألمه وأفراحه. نرى كيف أن للكلاب تعبيرها عن الوفاء، فحتى في لحظات الحزن والتفجع، يظلون أوفياء لرفيقهم الذي غادرهم.
الحادث الذي يتعرض له الطفل، والذي يؤدي إلى وفاته، هو صدمة مفاجئة تحرك مشاعر الفقد لدى الكلاب والطفلة على حد سواء. المشهد الذي يتجمع فيه الكلاب حول جثة الطفل، في حين تتناثر أصوات النباح المختلط بالنحيب، هو تجسيد بليغ للألم الجماعي. هذا المشهد يحاكي بشكل رمزي الروح الإنسانية التي قد تتناثر وتختلط مع مشاعر الكائنات الأخرى، التي تصبح بدورها مشاركًا في الحزن والضياع. فماذا عن الرمزية واللغة؟
تظهر القصة بوضوح كأداة تعبيرية غنية بالرمزية، فالأماكن الموحشة والكلاب الضالة تمثل حالة من التهميش الاجتماعي، بينما الفل، ذلك الزهر العطر، يحمل رمزية الأمل والجمال في عالم مليء بالحطام. الابتسامة التي لا تفارق الطفل تتخذ هي الأخرى رمزًا للنقاء، رغم الظروف القاسية التي تحيط به. كما أن القصة تُظهر ببراعة كيف أن الحياة نفسها لا تسير دائمًا وفقًا لما نريد، بل قد تكون مفاجآتها غير متوقعة، ولكن ما يميزها هو التفاعل الإنساني الصادق الذي يُولد في أصغر تفاصيلها.
“عندما تصادق الكلاب” هي قصة عن الفقدان، الصداقة، والإنسانية في أسمى صورها. من خلال طفل فقير يعيش في عالم مليء بالفقر والحرمان، تبرز أهمية الصداقات التي تتجاوز حدود الأنواع والظروف. في عالم يسوده العنف، نجد أن الفهم العميق للآخرين، سواء كانوا بشرًا أو حيوانات، هو من يخلق المعنى الحقيقي للعيش. القصة لا تقتصر على الحديث عن الفقر المادي، بل تستعرض الفقر الروحي وكيف يمكن لحياة بسيطة ومليئة بالحب أن تُحيي الأمل حتى في أظلم الأماكن.
إن الأسلوب القصصي عند محمد ياسين القطعاني في هذه القصة يعتمد بشكل كبير على السرد الداخلي أو المونولوج، حيث يستعرض الكاتب مشاعر الطفل وأفكاره بشكل غير مباشر. نجد أن الراوي يقترب من الشخصية الداخلية للطفل، محاولًا استكشاف تعبيراته العاطفية دون الحاجة إلى الحوار المباشر. على سبيل المثال، هناك تساؤلات داخلية يطرحها الطفل حول الطفلة التي تبيع الفل، مثل: “أين تذهب؟ ولم تسرع؟”، مما يعطي القارئ فكرة عن اهتمامه وفضوله حول الآخر في محيطه. هذه الأسئلة تعكس أيضًا شعور الطفل بالوحدة والانعزال. كما يستخدم القطعاني في هذه القصة الحاضر والماضي بالتوازي. بداية القصة تبدأ بمراقبة الطفل من بعيد في لحظة غروب الشمس، ثم يتنقل الزمن بين التفاصيل اليومية للطفل، وصولًا إلى الحدث المأساوي في النهاية. هذه الفجوات الزمنية، حيث يتكرر الغروب والابتسامة المتجددة، تضفي عمقًا فلسفيًا على السرد، وتعزز فكرة أن الحياة تستمر رغم الفقدان. كما يشعر القارئ بالتوازي بين الشخصيات والأحداث. العلاقة بين الطفل والكلاب تتوازى مع العلاقة بينه وبين الطفلة، وبين حياته هو وحياة الجرو المصاب. هذا التوازي يساهم في بناء فكرة أن الكائنات جميعها تعيش في بيئة قاسية وذات احتياجات متشابهة، ما يجعل من هذا العالم مكملًا لبعضه البعض. بعض الصور والأحداث تتكرر بشكل مدروس طوال القصة. على سبيل المثال، ابتسامة الطفل تظل حاضرة في كل مشهد، رغم الظروف القاسية التي يعيشها، وكذلك تكرار مشهد غروب الشمس في بداية ونهاية القصة يعزز تأثير اللحظات الدرامية. التكرار لا يقتصر على الأفعال، بل يمتد إلى العناصر الرمزية مثل “الفل” و”الكلاب”، التي تتجسد في الذاكرة الجمعية للشخصيات.
القصة في جوهرها ليست مجرد سرد لحياة طفل فقير، بل هي تأمل في معاني الفقدان، الصداقة، والإنسانية. من خلال العلاقة البسيطة بين الطفل والكلاب، تبرز فكرة أن الحياة مليئة بالجمال والأمل حتى في أحلك الظروف. الكاتب نجح في تقديم صورة عن الصداقات التي تتجاوز الفروقات البشرية، ما يجعل القصة تعبيرًا إنسانيًا عن الحب والتفهم في عالم قاسٍ. وهذا ما جعلني أتأمل مجددا لوحة الفنان الروسي فيودورريشيتنكوف وفيها يبرز معنى تعاطف الكلب مع الطفل.